أخر المقالات
إشترك معنا ليصلك جديد الموقع

بــريدك الإلكترونى فى أمان معنا

‏إظهار الرسائل ذات التسميات محاضرات وخطب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات محاضرات وخطب. إظهار كافة الرسائل

الزيارات:
علامات الساعة الكبرى (المسيح الدجال)1

محمد حسان
ملخص الخطبة
1- علامات الساعة الكبرى 2- فتنة الدجال 3- وصف الدجال 4- السبيل إلى النجاة من فتنته
الخطبة الأولى
أحبتي في الله:
هذا هو لقاءنا الرابع مع دروس سلسلة الدار الآخرة، وكنا قد أنهينا آنفا الحديث عن العلامات الصغرى التي ستقع بين يدي الساعة، والآن حديثنا عن العلامات الكبرى التي ستقع قبل قيام الساعة مباشرة، وقد ذكر النبي هذه العلامات في حديثه الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي اللـه عنه قال: اطلع علينا النبي  ونحن نتذاكر فقال: (ما تذاكرون؟) قلنا: نذكر الساعة قال: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) [1].

ولقد ذكر المصطفى  هذه العلامات بغير هذا الترتيب في روايات أخرى صحيحة والذي يترجح من الأخبار كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" :
أن خروج الدجال هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال وينتهي ذلك بقيام الساعة ولعل خروج الدابة يقع في نفس اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب، واللـه أعلم [2].
ولكن على أي حال فإن العلامات الكبرى ستقع متتابعة فهي كحبات العقد إذا انفرطت منه حبه تتابعت بقية الحبات.
ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم في مستدركه وصححه على شرط مسلم وأقره الحاكم والذهبي والألباني من حديث أنس أن النبي  قال: (الأمارات (أي العلامات الكبرى) خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً) [3].
واسمحوا لي أن أستهل الحديث اليوم مع حضراتكم في العلامات الكبرى عن الآية العظيمة الأولى التي تؤذن بتغير الأحوال على الأرض، ألا وهي المسيح الدجال...  وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعا فسوف أركز الحديث في العناصر التالية :
     أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض.
     ثانياً: وصف دقيق للدجال وفتنته.
     ثالثاً: ما السبيل إلى النجاة.
فأعرني قلبك جيدا...  وأعرني سمعك تماما...  فإن الموضوع من الخطورة بمكان.
أولاً: الدجال أعظم فتنة على وجه الأرض، فتدبر جيدا أيها الحبيب وقِفْ على خطر هذه الفتنة!، فالدجال أعظم فتنة على وجه الأرض من يوم أن خلق اللـه آدم إلى قيام الساعة.
لماذا سمى الدجال بالمسيح الدجال؟!!
سمى الدجال بالمسيح لأن عينه ممسوحة قال المصطفى : (الدجال ممسوح العين) [4] وسمى بالدجال لأنه يغطى الحق بالكذب والباطل فهذا دجل فسمى بالدجال وفتنة الدجال فتنة عظيمة!!
وفى صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين رضي اللـه عنهما قال: سمعت رسول اللـه  يقول: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) [5].
وأمرُ الدجالِ أمرُُ غيبي والأمر الغيبي لا يجوز أن نتكلم فيه بشيء من عند أنفسنا إنما ننقل عن الصادق المصدوق  الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأنوه أيضاً أننا لا نلتفت إلا لما صح من حديث رسول اللـه  كعادتنا ولله الحمد والمنة.
روى ابن ماجه في سننه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أن الحبيب  قال: (إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ اللـه ذرية آدم أعظم من فتنة المسيح الدجال ولم يبعث اللـه نبيا إلا وقد أنذر قومه الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة ،فإن يخرج الدجال وأنا بين أظهركم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج الدجال من بعدي فكل امريء حجيج نفسه، واللـه خليفتي على كل مسلم).
يا لها من كرامة لأمة الحبيب محمد صلى اللـه عليه وسلم.
ففتنة الدجال عظيمة!.. أعظم فتنة على وجه الأرض بشهادة الصادق المصدوق  الذي لا ينطق عن الهوى.

أحبتي في اللـه:
لقد وصف النبي  الدجال وصفاً دقيقاً محكماً وبين لنا فتنته بياناً شافيا حتى لا يغتر بالدجال أحد من الموحدين باللـه رب العالمين...  وهذا هو عنصرنا الثانى.
ثانياً: وصفٌ دقيقٌ للدجال وفتنته
وصف النبي  الدجال فقال :والحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قام رسول اللـه  في الناس خطيبا فحمد اللـه وأثنى على اللـه بما هو أهله....  فذكر الدجال فقال: (إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، ولقد أنذر نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه ألا فاعلموا أنه أعور وأن اللـه ليس بأعور) [6].
وفى رواية (أعور العين اليمنى)، وفي رواية أخرى صحيحة (أعور العين اليسرى)، اعلموا أنه أعور وأن اللـه ليس بأعور جل جلاله، جل ربنا عن الشبيه..  وعن النظير..  وعن المثيل.. لا كفء له، ولا ضد له، ولا ند له ولا شبيه له، ولا زوج له ولا ولد له:   قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ  ،   لَيسَ كَمثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ  .
ثم قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم) [7].
ماذا تريد بعد ذلك من الرحمة المهداة والنعمة المسداة من الذي قال ربه في حقه:  بالمُؤمِنِينَ رَؤوفُُ رَحِيمُُ  .
يبين لك لتتعرف على الدجال إن خرج بين أظهرنا، يقول لك ممسوح العين...  مكتوب بين عينيه كافر... يقرؤه كل مسلم.
وفى رواية حذيفة في صحيح مسلم قال : (الدجال، مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب) [8].
لا ينبغي أن نصرف لفظ النبي  على غير ظاهره، الكتابة على جبين الدجال كتابة حقيقية لدرجة أنه وردت في رواية في صحيح مسلم قال : (الدجال ممسوح العين، مكتوب بين عينيه (ك ف ر) أي كافر) [9].

وصف عجيب للدجال من رسول اللـه عليه الصلاة والسلام !
أستحلفك باللـه أن تتدبر معي هذا المطلع العجيب الذي رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث حذيفة بن اليمان رضي اللـه عنه قال الذي لا ينطق عن الهوى : (لأنا أعلم بما مع الدجال من الدجال، معه نهران يجريان أحدهما رأى العين ماء أبيض، والأخر رأى العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهـر الذي يراه ناراً، وليغمض، ثم ليطأطيء رأسه فليشرب منه فإنه ماء بارد)[10].
يقول لنا الصادق المصدوق  لا تخش نار الدجال فهو دجال يغطى الحق بالكذب والباطل، إن رأيت ناره فاعلم بأنها ماء عذب بارد طيب.
وفى رواية أخرى في صحيح مسلم لحذيفة رضي اللـه عنه أن النبي  قال: (يخرج الدجال وإن معه ماءً وناراً، فما يراه الناس ماءً فهي نار تحرق وما يراه الناس نارا فهو ماء بارد عذب) [11]).
في حديث النواس بن سمعان رضي اللـه عنه أنه قال: سأل الصحابة رسول اللـه  عن المدة التي سيمكثها الدجال في الأرض، فقال الحبيب : (أربعون يوما، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كسائر أيامكم )، قلنا: يا رسول اللـه اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: (لا، اقدروا له قدره) [12]، يعنى صلوا الفجر وعدوا الساعات التي كانت قبل ذلك بين الفجر والظهر، وصلوا الظهر، وعدوا الساعات التي كانت بين الظهر والعصر وهكذا.
فسأل الصحابة رسول الله - وما زلنا في حديث النواس ابن سمعان -: وما سرعته في الأرض؟!: (يمكث في الأرض أربعين ليلة فيمر على الأرض كلها؟ سرعته كالغيث - أي المطر- استدبرته الريح)...  يعنى يمر في كل أرجاء وأنحاء الأرض.
ثم قال الحبيب : (يأتي الدجال على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ماكانت ذراً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر).

فتنة رهيبة !!
فلو عقل هؤلاء لعلموا أن صفات النقص من أعظم الأدلة على كفره وبطلان إدعاءاته.
إن الذي يستحق أن يعبد هو المتصف بكل صفات الكمال والإجلال.
ثم ينطلق الدجال إلى قوم آخرين فيقول لهم: أنا ربكم. فيقولون :لا ويكذبونه.
يقول المصطفى : (ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) أي جماعات النحل
فتنة رهيبة!!
ثم تزداد الفتنة !!!
يقول النبي  ثم يدعوا رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، فيمشى الدجال بين القطعتين أمام الناس ويقول للشاب قم فيستوي الشاب حيا بين يديه !!.
فتنه رهيبه !!!
وفى رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم [13] يقول المصطفى : (فيخرج إليه شاب فتلقاه المسالح، مسالح الدجال (أي أتباعه من اليهود الذين يحملون السلاح) فيقولون له: أين تعمد؟
فيقول: إلى هذا الذي خرج (أي إلى الدجال) فيقولون له أولا تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، أي لو نظرت إلى الدجال سأعرفه!
فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أو ليس قد نهانا ربنا أن نقتل أحداً دونه، فينطلقون بهذا الرجل المؤمن إلى الدجال، فإذا نظر المؤمن إليه قال: أيها الناس! هذا  المسيح الدجال الذي ذكره لنا رسول اللـه  يقول المصطفى: (فيأمر الدجال به فيشج، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضربا، قال:  فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب. قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشى الدجال بين القطعتين ،: ثم يقول له: قم، فيستوي قائما، قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة؟ قال: ثم يقول: يا أيها الناس: إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه الدجال ليذبحه فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسا، فلا يستطيع إليه سبيلا، قال: فيأخذ بيديـه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه في النـار وإنما ألقي في الجنة) فقال رسول اللـه : (هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) [14].

وسأختم حديثي عن فتنة الدجال بحديث عجيب رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث تميم الداري رضي الله عنه من حديث فاطمة بنت قيس عن تميم الداري قالت: سمعت منادي رسول اللـه ينادي: "الصلاة جامعة فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول اللـه ، وكنت في النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى الرسول  صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال: (أيها الناس ليلزم كل إنسان مصلاه) ثم قال (أتدرون لم جمعتكم؟) قالوا: اللـه ورسوله أعلم.

فقال رسول اللـه : (أما إني واللـه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميما الداري كان رجلا نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام "قبيلتان عربيتان مشهورتان" فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرفؤوا [15] إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا جزيرة فلقيتهم دابة أهلب [16] كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره، فقالوا: ويلك، من أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة، قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق، فلما سمت لنا رجلا فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير، فإذا أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني: ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا ندرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل الذي في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق فأقبلنا إليك سراعا، وفــزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن بيسان قلنا: وعن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك أن لا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال أما إن ذاك خيرا لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عنى، أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فسأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة فهما محرمتان على كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحـدة، أو واحدا منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا يصدنى عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها) قالت: قال رسول اللـه : وطعن بمخصرته في المنبر (هذه طيبة..  هذه طيبة) يعنى: المدينـة (ألا هل كنت حدثتكم عن ذلك؟) فقـال النـاس: نعم، قال: (فإنه أعجبني حديث تميم لأنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو؟ من قبل المشرق ما هو ؟، وأومأ بيده إلى المشرق) قالت: فحفظت هذا من رسول اللـه .

أيها الأحبة الكرام:
هذا قليل من كثير، فلا زال هناك الكثير عن فتنة الدجال، فقد أجملت لكم ما يسر اللـه عز وجل، لنقف على خطورة هذه الفتنة.
وهناك سؤال لابد أن يطرح في هذا المجال ألا وهو:
هل سيقتل الدجال؟! ومن الذي سيقتله؟!

نعم...  أبشروا سيقتل الدجال وسيقتله عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
روى ابن ماجه في سننه والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الألباني من حديث أبي أمامة الباهلي أنه  قال: (بينما إمام المسلمين يصلى بهم الصبح في بيت المقدس إذا نزل عيسى بن مريم، فإذا نظر إليه إمام المسلمين عرفه، فيتقهقر إمام المسلمين لنبي اللـه عيسى ليصلى بالمؤمنين - من أتباع سيد النبيين محمد- فيأتي عيسى عليه السلام ويضع يده في كتف إمام المسلمين ويقول: لا بل تقدم أنت فصلِّ فالصلاة لك أقيمت)، وفي لفظ (فإمامكم منكم يا أمة محمد ويصلى نبي اللـه عيسى خلف إمام المسلمين لله رب العالمين، فإذا ما أنهى إمام المسلمين، قام عيسى وقام خلفه المسلمون، فإذا فتح عيسى باب بيت المقدس، رأى المسيح الدجال معه سبعون ألف يهودي معهم السلاح، فإذا نظر الدجال إلى نبي اللـه عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، ثم يهرب فينطلق عيسى وراءه فيمسك به عند باب لد في فلسطين، فيقتله نبي اللـه عيسى ويستريح الخلق من شر الدجال).
ويبقى هنا سؤال ألا وهو: ما السبيل إلى النجاة؟
والإجابة على هذا السؤال تكون بعد جلسة الاستراحة
وأقول قولي هذا واستغفر اللـه لي ولكم

[1] رواه مسلم رقم (2901) فى الفتن، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال، وأبو داود رقم (4311) فى الملاحم، باب أمارات الساعة، والترمذى رقم (2184) فى الفتن، باب ما جاء فى الخسف.
[2] فتح البارى (11/353) .
[3] أخرجه أحمد فى المسند رقم (7040) وقال محققه : إسناده صحيح .
[4] رواه مسلم رقم (2933)، فى الفتن، باب ذكر الدجال وصفة ما معه، وأبو داود رقم (4316،4317،4318) فى الملاحم، باب خروج الدجال، والترمذى رقم (2246) فى الفتن.
[5] رواه مسلم رقم (2946) فى الفتن، باب فى بقية من أحاديث الدجال.
[6] رواه البخـارى رقم (7127) فى الفتن، باب ذكر الدجال، ومسلم رقم (169) فى الإيمان، باب ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال، وأبو داود واللفظ له رقم (4757) فى السنة، بـاب فى الدجال، والترمذى رقم (2236،2242) فى الفتن، باب ما جاء فى علامة الدجال .
[7] رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفة ما معه، وأبو داود رقم (3416 - 3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن .
[8] رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن، باب ذكر الدجال وصفة ما معه، وأبو داود رقم (3416 :3418) فى الملاحم ، باب خروج الدجال ، والترمذى رقم (2246) فى الفتن .
[9] رواه مسلم رقم (2933) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه .
[10] رواه البخارى رقم (7130) فى الفتن، باب ذكر الدجال، ومسلم رقم (2934،2935) فى الفتن، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، وأبو داود رقم (4315) فى الملاحم، باب خروج الدجال .
[11] رواه مسلم رقم (2934 ، 2935 ) فى الفتن ، باب ذكر الدجال .
[12] رواه مسلم رقم (2937) فى الفتن ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، وأبو داود رقم (4321، 4322) فى الملاحم، باب خروج الدجال، والترمذى رقم (2241) فى الفتن، باب ما جاء فى فتنة الدجال.
[13] رقم (2938) فى الفتن وأشراط الساعة ، باب فى صفة الدجال.
[14] رواه البخارى رقم (7132) فى الفتن، باب لا يدخل المدينة ، ومسلم رقم (2938) فى الفتن، باب صفة الدجال وتحريم المدينة عليه.
[15] أرفأت السفينة : قربتها إلى الشط وأدنيتها من البر .
[16] الهلب : ما غلظ من الشعر والأهلب : الغليظ الشعر الخشن.

الزيارات:
علامات الساعة الكبرى (المسيح الدجال)2

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده اللـه فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد أحبتي في الله:
فما السبيل إلى النجاة؟
أحبتي الكرام: أجيب لكم عن هذا السؤال من كلام سيد الرجال محمد بن عبد اللـه  حتى تطمئن قلوبكم وتستريح، ثبتكم الله.
ففي الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه وصححه الألباني.
قال  : (من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال) [1].
وفى لفظ: (من حفظ عشر آيات من أوائل سورة الكهف عصم من فتنة الدجال).
وفى لفظ: (من حفظ  عشر آيات من أواخر سورة الكهف عصم من فتنة الدجال).
لقد تبينتم الآن أمر الدجال، فالأمر جد خطير، هل نقف على مثل هذه الخطورة ونحفظ عشر آيات فقط من سورة الكهف، أراكم تقولون لا بل حفظ السورة بالكامل أمر يسير أمام هذه الخطورة الشديدة، أرى منكم أناساً يقولون نذهب إلى مكة أو المدينة، سأقول لكم لا بأس، من يستطيع الفرار منكم إلى مَكة المباركة أو طيبة طيبها اللـه، فله ذلك، فهما محرمتان على الدجال أن يدخل واحدة منهما وذلك من سبل النجاة.
لكنني لا أجد لك سبيلا للنجاة أكبر وأشرف وأجل وأعظم من أن ُتوحد اللـه جل وعلا وتعرف معنى كلمة.. "لا إله إلا الله"..  فهذا هو أصل الأصول وبر الأمان لكل مؤمن يريد الأمان حقا في الدنيا والآخرة.
ألم يقل لك المصطفى بأنه لا يقرأ كلمة كافر بين عيني الدجال إلا مؤمن موحد للكبير المتعال، واعلم يقينا بأن الإيمان ليس كلمة يرددها لسانك فحسب..  بل الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان "يعنى القلب"... وعمل بالجوارح والأركان...  ولابد أن تعلم أن أركان الإيمان...    أن تؤمن باللـه وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره  فلا بد لك من الآن أن تصحح إيمانك باللـه جل وعلا وتحقق الإيمان يقينا.

وقد قال الحسن : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.

قال اللـه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللـه ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت:30-33].

قال اللـه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:107 -110].

[1] رواه مسلم رقم (809) فى صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسى، وأبو داود رقم (4323) فى الملاحم، باب خروج الدجال، والترمذى رقم (2888) فى ثواب القرآن.

الزيارات:
التدخين عدو عنيد 1

التدخين (أعتذر إليكم أيها المدخنون إذا قسوت عليكم فما أردت إلا تخليصكم من عدو عنيد قد تسلط عليكم وفتك بكم وأبعدكم عن الخير وأهله وقربكم من الشر وأهله.)
الخطبة الاولى:
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واشكروه أن أغناكم بحلاله عن حرامه  وأباح لكم من الطيبات ما تقوم به مصالحكم الدينية والبدنية وحرم عليكم الخبائث لأنها تضركم ولا تنفعكم.
أيها الإخوة: إن التغذي بالطيبات يكون له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه لأنها تغذي تغذية طيبة، والتغذي بالخبائث يكون له أثر خبيث في الأبدان والسلوك لأنها تغذي تغذية خبيثة.
ألا وإن من الخبائث التي ابتلي بها مجتمع المسلمين اليوم هذا الدخان الخبيث الذي فشى شربه في الصغار والكبار وصار شرابه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء بحيث أن أحدهم يملأ فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم، فيخيم على الحاضرين حوله سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوث بالريق القذر والرائحة الكريهة ومصدر ذلك كله فم المدخن البذيء لا يراعي لمجالسه حرمة، ولا يفكر في وخيم فعله ولو أن إنسانا تنفس في وجه هذه المدخن أو امتخط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل وهو يفعل أقبح من ذلك بمجالسه، فنفخ الدخان في وجوه الناس أعظم من ذلك بأضعاف ولكن الأمر كما جاء في الحديث: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
ومع تنوع أضرار الدخان وآفاته وعدم الفائدة والمنفعة فيه ولو من أبعد الوجوه فقد أكب عليه الجماهير في مشارق الأرض ومغاربها وأصبح مما يتفكّه به ويتلذذ بشربه وتعبق بأنتانه المجالس والمجتمعات وذلك ما حملني على تحرير هذه الخطبة واختيار الكتابة في هذا الموضوع وتأليف ما اجتمع لديّ فيه من معلومات قياما ببعض ما أوجب الله من النصيحة والبيان، ورجاء الانتفاع والتأثر والله ولي التوفيق.
نقل الشيخ محمد بن إبراهيم عن الأطباء قولهم: والدخان مكون من مادة التبغ وهو نبات حشيش مخدر مرّ الطعم وبعد التحقيق والتجربة ظهر أن التبغ بنوعيه، التوتون، والتنباك، من الفصيلة الباذنجانية، التي تشمل على أشر النباتات السامة كالبلادونا والبرش والبنج وهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر ومنه مادة صمغية ومادة حريقة تسمى: نيوكتين. قالوا: هي من أشد السموم مفعولاً، والمدخن يعتبر الدخان مكملا للرجولة وحبا لتقليد نجوم السينما عندما يراهم يشربون الدخان ومجالسة للأصدقاء فتبدأ السيجارة الأولى ثم الإدمان.
أيها المسلمون: إن شرب الدخان حارق للبدن والدين والمال والمجتمع ومعلوم أن نوعا واحدا من هذه المضار كافٍ وسوف نتكلم عنها واحدة واحدة
أما ضرره على البدن:
فهو يضعفه بوجه عام ويضعف القلب ويسبب مرض سرطان الرئة ومرض السل ومرض السعال في الصدر ويجلب البلغم والأمراض الصدرية، ويضعف العقل بحيث يصبح المدخن ذا حماقة ورعونة غالبا، ويسبب صداع الرأس ويقلل شهوة الطعام ويفسد الذوق والمزاج، ويفتر المجموع العصبي ويضعف شهوة النكاح، ويشوه الوجه بحيث يجعله كالا وتظهر على صاحبه زرقة وصفرة تعم بدنه.
ولقد ذكر الأطباء السبب في إحداثه لهذه الأمراض ونحوها وهو اشتماله على المادة السامة وهي النيكوتين، بل إن الشركات المصنعة تحذر وتقول: تحذير رسمي التدخين يضر بصحتك ننصحك بالابتعاد عنه، ومع هذا نجد الإصرار ممن يتعاطونه، ولا تقتصر مضار التدخين على ما ذكر، فقد أظهرت التجارب المجراة على الأرانب المسممة بالنيكوتين تأثر المخ والمخيخ فضلا عن اضطراب العصب السمباتي، لذلك يشكو مدمنو التدخين الأرق والقلق والتحسس والكآبة ووهن الإرادة وضعف الذاكرة وقد يظهر عليهم الكسل والخمول والتعب والنصب وغير ذلك من العاهات المصاحبة له.
ولقد أكثر الأطباء والحكماء الكتابة في التدخين، وما ينتج عنه وانتشرت أقوالهم وطبعت مؤلفاتهم وكلها تدندن حول أضراره الصحية للبدن.
وأما ضرره في الدين:
قال تعالى: ﴿إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة﴾، فذكر الله تعالى من أسباب تحريم الخمر والميسر الصد عن الذكر وعن الصلاة وهذه العلة تتحقق في الدخان فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة ويألف اللهو والباطل عادة، وهو غالبا السبب الرئيسي لبعد المدخنين عن حضور المساجد إلا من شاء الله وهكذا سائر العبادات وبالأخص الصيام فإنه أثقل على المدخنين من غيره لأنهم به ينفطمون عن لذتهم وسلوتهم ولهذا يفطر كثير منهم بالتدخين وبعضهم لا يصبر بل يشربه في نهار رمضان بلا مبالاة وخشية من الله.
وما كرّه العبد للخير فهو شر، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار فهذا يكون سببا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات نسأل الله السلامة.
وأما ضرره في المال:
فاسأل من يتعاطاه كم ينفق فيه من الريالات في كل يوم وقد يكون فقيرا ليس عنده قوت يومه وليله ومع هذا فهو يقدّم الدخان على شراء غيره، من الضروريات ولو ركبته الديون الكثيرة ولو فكر هذا المسكين في ما ينفق في هذا السم الخبيث وصرف هذا المال لمستحقيه لإخوانه المنكوبين ليجدوا لقمة يسدون بها رمقهم لكسب بذلك الأجر والمغفرة من الله والمثوبة ولكن من يتذكر ويتعظ؟
وأما ضرر  شرب الدخان في المجتمع:
فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس فيخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم وامتد هذا الأذى فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وفي السيارات والطائرات حتى عند أبواب المساجد بل إن بعضهم ما إن يخرج حتى يشعل السيجارة عند باب المسجد، بل إن التدخين يؤذي الملائكة الكرام ففي الصحيحين عن جابر  أن النبي  قال: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، ومن مضار الدخان الاجتماعية أنه يستنزف ثروة الأمة وينقلها إلى أيدي أعدائها من الشركات التي تصدر هذا الأذى الخبيث.
ومن مضاره أنه يسبب الحرائق المروعة التي تذهب بالأموال وتخرب البيوت، فكم حصل بسبب أعقاب السجائر التي تلقى وهي مشتعلة من إضرام حريق أتى على الأخضر واليابس وأتلف أموالا وأنفسا بغير حق، تولى كبرها ذلك المدخن الذي قذف بسيجارته دون مبالاة.
هذه بعض أضرار التدخين الاجتماعية والبدنية والدينية والمالية فهل يستطيع المدخنون أن يذكروا لنا فائدة واحدة أو بعض فائدة في شرب الدخان تقابل هذه المضار؟ فيا أسفاه كيف غابت عقولهم وسفهت أحلامهم وضاقت صدورهم من قبول الحق، بل إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا والتدخين في الحقيقة هو سفه ودناءة ولو رأى أحدنا إماما أو واعظا أو رجلا من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل ولشهّر به في المجالس ويقول منتقدا: رأيت الشيخ فلان يشرب الدخان وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها لعرف الفرق.
ومن أهم أسباب انتشار التدخين أقولها باختصار نظرا لضيق الوقت:
أولا: وسوسة الشيطان.
ثانيا: رفقاء السوء.
ثالثا: المقاهي والاستراحات العامة ولا إشكال في ذلك لأن من أقامها أناس قليلو الديانة والأمانة لا يهمهم سوى جمع المال بأي وسيلة.
رابعا: الآباء والمربون وخاصة إذا كانوا يتعاطون الدخان فإنهم يؤثرون فيمن يربونهم ولابد.
وأخيرا فما هو حكم التدخين أو الدخان.
ولعلك أيها المسلم بتحكيم عقلك وتفكيرك في شيء اتصف بالضرر على الدين والبدن والمال وتعدّى ضرره إلى الغير وعدمت فيه المنفعة أصلا لا تتوقف في تحريمه قبل أن تسمع النصوص النقلية ولكن لتقوية مدلول العقل تحقق أن الشرع قد نص على التحريم إجمالا وتفصيلا ولا شك أن الشرع هو الدليل القاطع في مسألة النزاع وبهذه النظرة العامة يتضح أن استعمال التدخين محرم وممنوع شرعا ولا يباح بحال من الأحوال وأما كلام العلماء وقولهم بالتحريم وأدلتهم فأكثر من أن تحصره وقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا رحمه الله في فتواه: (مما يعلم كل أحد تحريمنا إياه نحن ومشايخنا ومشايخ مشايخنا ومشايخهم، وكافة المحققين من أئمة الدعوة وسائر المحققين سواهم من العلماء في سائر الأمصار من له من وجوده بعد الألفِ بعشرة أعوام إلى يومنا هذا) انتهى كلامه.
وفي الختام أعتذر إليكم أيها المدخنون إذا قسوت عليكم فما أردت إلا تخليصكم من عدو عنيد قد تسلط عليكم وفتك بكم وأبعدكم عن الخير وأهله وقربكم من الشر وأهله.
فيا من ابتليت بشرب الدخان أسأل الله لنا ولك العافية إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه وأن تتركه طاعة لربك وحفاظا على صحتك، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه ثم لا تنسى أيها المدخن أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدا ولتلاميذك إن كنت مدرسا ولأصحابك ومخالطيك فتكون قد جنيت على نفسك وغيرك وإذا تركته وتبت منه صرت قدوة حسنة لغيرك فكن قدوة في الخير ولا تكن قدوة في الشر.
والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولا يحملنك التقليد الأعمى والمجاملة الخادعة أن تتعاطى هذا الدخان وقد عافاك الله منه أو تستمر فيه وقد عرفت أضراره وأمامك باب التوبة مفتوح فبادر قبل أن يغلق.
وأحب أن أنبه إلى أن الشيشة تأخذ نفس الحكم في الحرمة لمن يتعاطاها فلا يجوز شربها ولا اقتناؤها بالمنزل ولا الجلوس في المقاهي من أجل شربها والله أعلم.

الزيارات:
التدخين عدو عنيد 2

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه أما بعد:
أيها المسلمون: وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده فثمنه سحت والاتجار به مقت وقد قال : (إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه) رواه الإمام أحمد وأبو داود وهو صحيح.
وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز وثمنه يحرم أكله كثمن الخمر ومن تاجر فيه أي باعه بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لما حرمت عليهم الشحوم إذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالا حراما ويجمع ثروة محرمة.
فالحرام لا يدوم وإن دام لا ينفع وقد شاهد الناس أن كل متجر فيه دخان وإن استدرج ونما ماله في وقت ما فإنه يبتلى بالقلة في آخر أمره وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله وانظروا في العواقب فإن في الحلال غنية عن الحرام وقد وردفي الحديث عنه  قوله: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته).

الزيارات:
الجدال بين المباح و المحبوب و المذموم

بسم الله الرحمن الرحيم ..
الجدال يقصد به المحاجة أو المناظرة واستعراض الاراء المدعومة بالحجج والبراهين التى تدعم رأى أحد المتجادلين أو تدعم وجهة نظره على نظيره الاخر، وقد جاء ذكره فى القرآن الكريم تارة بلفظ الجدال وأخرى بلفظ التحاج وثالثة بلفظ المراء.
استخلف الله تعالى الانسان فى الارض وأناطه بعمارتها وكلفه بأمانتها، فزوده سبحانه بالقدرات والامكانات التى تمكنه من إيصال رسالته وتعينه على أداء مهمته، التى أبت من حملها المخلوقات، فأشفق الله منها فحملها الانسان، فهذه القدرات المميز بها الانسان عن نظائره من المخلوقات الاخرى، إنما هى إشفاقا من الله على هذا الانسان الظلوم الجهول.
 والانسان مدنى بطبعه لا يعيش الا داخل جماعة من بنى جنسه يتفاعل معهم، يؤثر فيهم ويتأثر بهم، ويأتى الجدال كمطلب من أهم متطلبات هذا التفاعل، وذلك لحكمة بالغة وغاية نبيلة فى استجلاب الحقوق ودفع المظالم , وإعلاء الحق بحق ودحض الباطل بلا باطل .
  ولهذه الحكمة السامية كان الانسان وما يزال أكثر شىء جدلاً، فى عموم المخلوقات، قال عنه ربه : ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [1] بيد أنه سبحانه دعاه الى الإيمان به واتباع شرعه، لضبط هذه الغرائز وتنظمها بعيداً عن القمع والكبت أو الإسراف وإطلاق العنان، وأما حينما ينزوى الانسان عن دائرة الايمان تتمكن منه غرائزة وتسيطر عليه سيطرة تامة، فتقيد عقله وتجعله فى مهمة إشباعها  وتهيمن على جوارحه، وتشغل قلبه، فيصير أسير تلك الغرائز، وبذلك تفقد وظيفتها وتنحرف عن مهمتها من مجرد وسيلة ضرورية وإشفاقاً من الله تعالى على ذلك المخلوق لتحقيق غاية العمارة، الى غاية فى حد ذاتها، فيرتد الانسان من ذلك المخلوق المكرم الى درجة أحط من درجات البهيمية .
إذن الجدال ينطوى ضمن الغرائز المزود بها الإنسان خليفة الله فى الإرض لتعينه على حمل تلك الامانة، فما موقف الإسلام منه ؟ وكيف ضبط الإسلام تلك الغريزة ؟
والمتأمل لمصدرى التشريع الإسلامى يجد أن النصوص تتعامل معه تارة على أنه مباح ومحبوب وأخرى على أنه مذموم ومكروه، فلنأخذ كل نوع منهما بالتحليل :
أولهما: المحبوب
وهذا اللون من الجدال قد جاء وصفه فى القرآ الكريم مرة بأنه أحسن : ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [2],  وثانية بأنه عن علم : ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [3], وأخيرة بأنه ظاهر : ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا﴾ [4].
 والأصل فى الجدال أنه مذموم لورود أكثر الايات فى ذمه إلا فى الثلاثة السابقة، ومنها نستخلص سمات وشروط الجدال المباح وهى:
* أن يرجى من المجادل عدم العناد واتباع الهوى، بل تبدوا عليه أمارات التجرد وعلامات التعقل، أما المعاندين المكابرين فجدالهم مذموم محظور ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ بعنادهم وإصرارهم على الباطل .
وإذا الخصمان لم يهتديا *** سُنَّةَ البحثِ عن الحق غبر
* أن يكون الجدال بالتى هى أحسن من الرفق ولين الجانب وعدم التعالى والغرور، وإلا كان مذموماً، لأنه سيؤل الى مفاسد عظيمة وأضرار بالغة .
* أن يكون عن علم وبصيرة بموضوع الجدال، وإلا كان ممقوتاً وكان شره مستطيراً، وسيأتى بيانه إن شاء الله، ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾.
* أن يكون موضوعه ذو قيمة وأن يبتغى من طرحه للحوار جدوى وفائدة عامة، كدفع ضرر شديد أو استجلاب خير وفير، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم﴾ [5].
* أن يبحث فى جوهر الأمور ولا يتطرق الى ثناياها، وأن يكون فى صلب الموضوع ولا يحيد الى النقاط الفرعية ﴿إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا
وهذا هو الحوار البناء الذى يخاطب العقل ويلتمس الإقناع, ويتمثل فى الدعوة الى الله وائتلاف قلوب العباد وترغيبهم فى الخير وفضائلة، وتنفيرهم من الشر وغوائله، والأمر بالمعروف بمعروف، والنهى عن المنكر بلا منكر، والحض على فعل الواجبات واجتناب المنهيات قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [6].
ويشيع هذا النوع فى الأوساط العلمية، بين العلماء بعضهم البعض، وبين الدعاة وبين أهل الديان الأخرى، ويتخذ من المنهج المقارن أسلوباً له، وغالباً ما يكون فى المسائل العقدية والعلمية .
  ومن سمات هذا النوع أن صاحبه يبحث دائماً عن نقاط الاتفاق ويبنى عليها، ولا يركز على مواطن الخلاف ليقيم عليها، فتتسع الفجوة وتزداد الهوة وينشأ التنافر، بما يفضى فى النهاية الى الكراهية والخصام .
والأخير: المذموم
وهو الذى يغلب على أصحابه حب النفس واتباع الهوى من أجل إشباع عريزة الحاجة الى الظهور والتميز عن الاخرين، فيغلب عليهم التعصب الاعمى ويسيطر عليهم الغضب، مما يفضى فى النهاية الى المنازعة والمخاصمة، وربما ادى الى أسواء من ذلك.
ويشيع هذا النوع بين عامة الناس وبسطائهم الذين لم يحصّلوا قدرا كافيا من العلم والثقافة، فما أن يطرح أحدهم موضوعاً ما إلا ويسارع المحيطين بإدلاء آرائهم وطرح أفكارهم، وبنفس السرعة يتحول الحضور الى فريقين مؤيد ومعارض، ويسير الجدال فى مثل هذه الظروف فى عدة مراحل من السئ الى الاسوأ :
* يحاول كل طرف أن يثبت تفوقه وأن رأيه صواب لا يحتمل الخطأ وأن رأى الطرف الاخر خطأ لا يحتمل الصواب.
* إن كان فى الجلسة أكثر من اثنين تحول الامر الى فوضى، كما لو كانت سوقاً مملؤا بالصخب والضجيج، حيث يتسابق الجميع الى الكلام ومن ثم تعلوا الاصوات وتتداخل.
* إن لاح لأحد الطرفين أن نظيره أقوى حجة منه وأبين دليلا منه، سارع بالنيل من الاخر والتجريح فى شخصه والتقليل من شأنه بسخرية واستهزاء، محاولاً صرف الانظار بعيداً عن الموضع حتى يتسنى له الظهور عليه.
* أما الطرف المستهان به فلن يرضخ لمثل ذلك، فتراه تارة يدفع عن نفسه وأخرى يهاجم الاخر بمثل صنيعه.
وقد ذكر الإمام النووى بعض صور الجدال المذموم التى ربما تغيب عن أذهان البعض، حيث قال : فإن قلت : لا بد للانسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه.
فالجواب ما أجاب به الإمام الغزالي : أن الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي، فإنه يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف أن الحق في أي جانب هو فيخاصم بغير علم.
ويدخل في الذم أيضا من يطلب حقه، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللدد والكذب للايذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك من يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء ، ففعله هذا ليس حراما، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلا، لان ضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدور، وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءة الآخر، ويحزن بمسرته، ويطلق اللسان في عرضه، فمن خاصم فقد تعرض لهذه الآفات، وأقل ما فيه اشتغال القلب حتى إنه يكون في صلاته وخاطره معلق بالمحاجة والخصومة فلا يبقى حاله على الاستقامة  أ .ه [7].
ومن ثم فإن الجدال على النحو مجلبة للعداوة وذريعة للكذب وباباً من أبواب الفتنة واتباع الهوى وسبباً من اسباب التفكك الإجتماعى من جراء التعصب الذى يؤل الى التنابز والتنافر وتنامى الحقد والكراهية .
ومن آثاره أيضاً تغليف القلب بالقسوة ونزوع الخشية، وكراهية الحق فى جانب المغلوب، وتنامى الغرور والكبر فى جانب الغالب، فضلاً عما يجلبه للنفس من هم وغم، من حيث أنه شهوة للنفس إذا ثارت لابد من إشباعها، وإلا أصابت صاحبها بالتوتر والقلق اللذان يؤلان الى الكدر والحزن.
قال النووى رحمه الله : قال بعضهم : ما رأيت شيئاً أذهب للدين، ولا أنقصَ للمروءة، ولا أضيع لِلَّذة، ولا أثقل للقلب من الخصومة
وقال عبدالله بن حسين بن علي رضي الله عنهم : (المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب)
 والان يلوح فى الافق سؤالا هو ثمرة البحث، كيف تعامل الإسلام مع هذه الظاهرة ؟ لعلنا قد أشرنا أعلاه الى ضوابط المباح , وان الأصل فيه الذم وهو ما عليه أكثر النصوص، لذلك فقد حذرت النصوص القرآنية منه أيما تحذير، ونفرت منه أشد تنفير، ودعت كذلك لمجانبة أهل الأهواء وعدم الخوض معهم فى جدال لا يرجى منه خير.
وقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم الجدال علامة الضلال بعد الهداية،, ومؤشر الإنحراف عن الجادة , لما يترتب عليه من آثار موبقة ونتائج مهلكة، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ".
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [8]
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك الرجل التى لا تهدأ عنده غريزة الجدال، بل تظل ثائرة لأتفه الأمور و يشتد في خصومته, ويجادل حتى يجدل خصمه ويقهره بأنه والعياذ بالله الأبغض الى الله، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلدّ الْخِصَم"[9].
   وقد توعد النبى صلى الله عليه وسلم ذلك الصنف الذى يصر على الجدال فى الباطل رغم علمه به، قال صلى الله عليه وسلم: "ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع"[10]، ويدخل فى الوعيد المحامى الذى ينوب عن المبطل وهو يعلم أنه مبطل .
إن ما سبق من نصوص يتعلق بالنوع المحظور، أما النوع المباح الذى يشيع بين العامة فقد رغب النبى صلى الله عليه وسلم فى تركه , لانه من دواعى الفطرة فيثقل على النفس تركه، كذلك جاء الترغيب فى تركه من باب درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولأنه يعلم أنه صنو الضلال والإنحراف، قال صلى الله عليه وسلم "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا"[11]، قدم النبى صلى الله عليه وسلم الوقاية على العلاج، واستأصل الداء قبل نشؤه، وحل المشكلة قبل وقوعها .
ولما كان هذا هو شأن الجدال والمراء، فقد تجنب السلف الخوض فيه , وحذروا منه، وورد عنهم آثار كثيرة فيه، نذكر بعضاً منها :

* قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : (كفى بك ظلماً ألا تزال مخاصماً, وكفى بك إثماً ألا تزال ممارياً)
* وقال ابن عباس لمعاوية -رضي الله عنهما - : هل لك في المناظرة فيما زعمت أنك خاصمت فيه أصحابي ؟ قال : وما تصنع بذلك ؟ أَشْغَبُ بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك , ويبقى في قلبي ما يضرك)
* قال الحسن - إذ سمع قوماً يتجادلون - (هؤلاء ملوا العبادة , وخف عليهم القول , وقل ورعهم فتكلموا)
* وقال ابن أبي الزناد : (ما أقام الجدلُ شيئاً إلا كسره جدلٌ مثله)
* وقال الأوزاعي : (إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل)
* وقال الصمعي : (سمعت أعرابياً يقول : من لاحى الرجال وماراهم قلَّتْ كرامته، ومن أكثر من شيء عُرِف به)
* وأخرج الآجُرِيُّ بسنده عن مسلم بن يسار - رحمه الله - أنه قال : (إياكم والمراءَ، فإنه ساعةُ جهلٍ العالم ، وبها يبتغي الشيطان زلته)
* وأخرج أن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - قال : ( من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل)
* كان أبو قلابة يقول : لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم ؟ فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم .
* جاء رجل إلى الحسن فقال : يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن : (أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه).
* كان عمران القصير يقول : إياكم والمنازعة والخصومة، وإياكم وهؤلاء الذين يقولون : أرأيت أرأبت .
* دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء، فقالا : يا أبا بكر، نحدثك بحديث ؟ قال : لا، قال : فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل ؟ قال : لا، لتقومن عني أو لأقومنه .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد!
كفوا عن الجدال
محمد سلامة الغنيمى
----------------------------------------
[1] [الكهف :45]
[2] [العنكبوت : 46]
[3] [آل عمران : 66]
[4] [الكهف : 22]
[5] [رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ والدارمي , وصححه الألبانى فى المشكاة ]
[6] [النحل : 125]
[7] [الأذكار , النووى , ص :371 ]
[8] [رَوَاهُ أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه , وصححه الالبلنى]
[9] [متفق عليه ]
[10] [أبو داود وصححه الأباني]
[11] [أبو داود وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة]

الزيارات:
عش عبداً... لتكن ملكاً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أحوال القلوب مع الله أسرارٌ يطلع عليها المخلصون من خلال ملامسة آثار الطاعات على قلوبهم؛ بحسب قوة إخلاصهم لربهم . . ومن ذاق عرف!!
فكثيرو التأمل في كل ما يدور حولهم من أحداث، وربط عموم مسيرتها بسنن الله من جهة،  وحكمته البالغة التي تظهر فيما يتبعها من عواقب من جهة ثانية، لهم مع التسليم بقضاء الله وقدره، ووقع برده على القلوب سكينةً وطمأنينةً؛ ما لا يمكن للغافلين والعابثين تحصيله بحال!!
والمتقلبون في دجى الأسحار بين ركوع وسجود يلفه هدير الاستغفار بأنين زفراتٍ تتقطع معها القلوب رهبةً ورغبةً؛ لهم من مذاق حلاوة الإيمان ما يجعلهم بحقٍ؛ يستحقرون كل متاع الحياة الدنيا عن جدارة واستحقاق!!
والساعون لنصرة دينهم، الراغبون في جنان ربهم، الدافعون عن نفوسهم كل هواجس الخوف والخشية من غير الله، المضحون بدنياهم في سبيل إعلاء كلمة الله، قد بلغوا بشموخ قلوبهم ذروة سنام دين الله؛ فحق لهم استنشاق عبير الجنان، وهم لا يزالون أحياء بأجسادهم على ظهر هذه الحياة!!
والداعون لهدي ربهم، السالكون بالناس درب نجاتهم، والراغبون في الأخذ بأيدي الهالكين نحو بر أمانهم، وليس لهم مطمع في دنياهم، بل كل غايتهم رضوان ربهم، لهم مع أنوار الهداية سبلاً يعجز معها الصادون عن سبيل الله مهما بلغت حيلهم، في منعهم أو حصار دعوتهم لله!!
والساعون لتفريج الكربات ليلاً ونهار، والباذلون من أوقاتهم للإصلاح بين الناس ابتغاء وجه العزيز الغفار، قد نالوا من رقة القلوب ما يجعلهم رموزاً للأخيار، وعاشوا بصفاء قلوبهم عيشة الأطهار!!

هؤلاء جميعاً هم ملوك وأمراء يوم القيامة، الذين يلبسهم الله برحمته تيجاناً من نورٍ ولؤلؤٍ بطاعاتهم وإخلاصهم له، وذلك لأنهم عاشوا في هذه الدنيا بحقٍ عبيداً لله، فلم ينسبوا الفضل إلا لله وحده (سبحانه وبحمده) وتنكروا لذواتهم حين تيقنوا أن ما وهبهم الله من الطاعات إنما هو محض فضلٍ وتوفيق منه سبحانه، فلم يغتروا بأنفسهم، بل كانوا والله في منتهى الشفقة عليها من سخط وعذاب الله!!
فتحسسوا مواضع أقدامهم قبل إقدامهم، وكانوا مع كل خطوة يسألون العون من الله ربهم، فكانوا مع كل نجاح وتوفيقٍ، يحمدونه على ما وهبهم من جزيل فضله بمددهم، وعند كل عجز أو فشل؛ يرجعون أسبابه إلى تقصيرهم وذنوبهم!!
وإذا سألت عن سرائرهم، فلقد كانوا لتقلبات قلوبهم من أشد المراقبين، ولخبايا نفوسهم من أدق المحاسبين، وذلك حينما علموا أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة؛ فتضرعوا إلى الله أن يخرجهم من هذه الدنيا غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين ولا مبدلين!!
فهلا ذقت نعمة عيش العبودية لله. . لتكون ملكاً بحقٍ يوم تعز النجاة؟!
اللهم اجعلنا برحمتك من عبادك الموحدين المخلصين العابدين المتعبدين المقبولين

أبو مهند القمري

الزيارات:
قصة الخوارج - الجزء الأول

نشأة الخوارج والتعريف بهم
الخوارج عرّف أهل العلم الخوارج بتعريفات منها ما بيّنه أبو الحسن الأشعري أن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة التي خرجت على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب ، وبيّن أن خروجهم عليه هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم، حيث قال رحمه الله تعالى: "والسبب الذي سموا له خوارج خروجهم على علي  لما حكم"[1].

فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على عليٍّ  بعد قبوله التحكيم في موقعة صِفِين، ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب الخوارج، ومن تلك الألقاب الحرورية والشراة والمارقة والمحكمة وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة؛ فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقين من الدين كما يمرق السهم من الرمية[2].
ومن أهل العلم من يرجّح بداية نشأة الخوارج إلى زمن النبي  ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول في قسمة ذهب كان قد بعث به علي  من اليمن، ويتضح ذلك من الحديث النبوي الشريف الذي رواه الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري  حيث قال:
بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ[3] لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا[4]. قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ وَإِمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاَءِ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ، فَقَالَ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً". قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ! قَالَ: "وَيْلَكَ! أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ".
قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ. قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟! قَالَ: "لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي". فَقَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ". قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ". وَأَظُنُّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ"[5].
ويعلق ابن الجوزي -رحمه الله- على هذا الحديث فيقول: أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي. وفي لفظ أنه قال له: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ"[6]. 
فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب [7].
وممن أشار بأن أول الخوارج ذو الخويصرة: أبو محمد بن حزم[8]، وكذا الشهرستاني[9]. ومن العلماء من يرى أن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان  بإحداثهم الفتنة التي أدت إلى قتله  ظلمًا وعدوانًا، وسميت تلك الفتنة التي أحدثوها بالفتنة الأولى[10].
وقد أطلق ابن كثير على الغوغاء الذين خرجوا على عثمان  وقتلوه اسم الخوارج[11].

الرأي الراجح حول نشأة الخوارج
بالرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة والغوغاء الذين خرجوا على عثمان  وبين الخوارج الذين خرجوا على علي  بسبب التحكيم فإن مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة لا ينطبق إلا على الخارجين بسبب التحكيم؛ بحكم كونهم جماعة في شكل طائفة لها اتجاهها السياسي وآراؤها الخاصة، أحدثت أثرًا فكريًّا عقديًّا واضحًا، بعكس ما سبقها من حالات[12].

ذم الخوارج في السنة النبوية
لقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي  في ذم الخوارج، منها ما روي عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ  قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ  وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اعْدِلْ! فَقَالَ: "وَيْلَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ -وَهُوَ قِدْحُهُ- فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ الَّذِي نَعَتَهُ[13]. 
وعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[14].
وعَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ  يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ "قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ"[15].
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ  قَالَ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلاَفٌ وَفُرْقَةٌ، قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: "التَّحْلِيقُ".
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  نَحْوَهُ قَالَ: "سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ وَالتَّسْبِيدُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَأَنِيمُوهُمْ". قَالَ أَبُو دَاوُد: التَّسْبِيدُ: اسْتِئْصَالُ الشَّعْرِ[16].
وعن أبي كَثِيرٍ مَوْلَى الأَنْصَارِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَيِّدِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ  حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ، فَكَأَنَّ النَّاسَ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  قَدْ حَدَّثَنَا بِأَقْوَامٍ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لاَ يَرْجِعُونَ فِيهِ أَبَدًا حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، وَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ إِحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ لَهَا حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، حَوْلَهُ سَبْعُ هُلْبَاتٍ فَالْتَمِسُوهُ؛ فَإِنِّي أُرَاهُ فِيهِمْ. فَالْتَمَسُوهُ فَوَجَدُوهُ إِلَى شَفِيرِ النَّهَرِ تَحْتَ الْقَتْلَى فَأَخْرَجُوهُ، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِنَّهُ لَمُتَقَلِّدٌ قَوْسًا لَهُ عَرَبِيَّةً، فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي مُخْدَجَتِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ! وَكَبَّرَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْهُ وَاسْتَبْشَرُوا، وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجِدُونَ[17].

مناظرة ابن عباس للخوارج
انفصل الخوارج في جماعة كبيرة من جيش علي  أثناء عودته من صفين إلى الكوفة، قُدِّر عددها في بعض الروايات ببضعة عشر ألفًا، وحُدِّد في رواية باثني عشر ألفًا[18]، وفي أخرى بستة آلاف[19]، وفي رواية بثمانية آلاف[20]، وفي رواية بأنهم أربعة عشر ألفًا[21].
وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل، وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي  وهالهم، وسار علي  بمن بقي من جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة، وانشغل أمير المؤمنين بأمر الخوارج، خصوصًا بعدما بلغه تنظيم جماعتهم من تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال، وأن البيعة لله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يعني انفصالهم فعليًّا عن جماعة المسلمين[22].
وكان أمير المؤمنين علي  حريصًا على إرجاعهم إلى جماعة المسلمين، فأرسل ابن عباس إليهم لمناظرتهم، وهذا ابن عباس يروي لنا ذلك فيقول: "... فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائمون فسلمت عليهم فقالوا: مرحبًا بك يابن عباس! فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي  وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وتخبرون بما تقولون. قلت: أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله  وابن عمه؟
قالوا: ثلاثًا.
قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن فإنه حكم الرجال في أمر الله فكفر، وقال الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، ما شأن الرجال والحكم؟
فقلت: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، فإن كانوا كفارًا سلبهم، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم.
قلت: هذه اثنان، فما الثالثة؟
قالوا: إنه محا اسمه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.
قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سُنَّة نبيه  ما يردّ قولكم، أترضون؟!
قالوا: نعم.
قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيّر الله حكمه إلى الرجال في ثُمُن ربع درهم، فأمر الله الرجال أن يحكموا فيه، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95]. فنشدتكم بالله تعالى، أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟! وأنتم تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصيّر ذلك إلى الرجال. قالوا: بل هذا أفضل. وفي المرأة وزوجها قال الله : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم، وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم قاتل ولم يسبِ ولم يغنم، أفتسلبون أُمَّكم عائشة -رضي الله عنها- ثم تستحلون منها ما يستحل من غيرها وهي أمكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، ولئن قلتم ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]. فأنتم تدورون بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج!
قلت: فخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون وأراكم قد سمعتم أن النبي  يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي : "اكتبْ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله : "امْحُ يَا عَلِيُّ رَسُولَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ". فوالله رسول الله  خير من عليٍّ، وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة. أخرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم فقُتلوا على ضلالتهم، قتلهم المهاجرون والأنصار[23].

خروج علي لمناظرة بقية الخوارج
بعد مناظرة ابن عباس للخوارج واستجابة ألفين منهم له، خرج أمير المؤمنين علي بنفسه إليهم فكلمهم فرجعوا ودخلوا الكوفة، إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً؛ بسبب أن الخوارج فهموا من علي  أنه رجع عن التحكيم وتاب من خطيئته -حسب زعمهم- وصاروا يذيعون هذا الزعم بين الناس، فدخل الأشعث بن قيس الكندي إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقال: إن الناس يتحدثون أنك رجعت لهم عن كفرك.
فلما أن كان الغد الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فخطب، فذكّرهم مباينتهم الناس وأمرهم الذي فارقوه فيه، فعابهم وعاب أمرهم. فلما نزل المنبر تنادوا من نواحي المسجد "لا حكم إلا لله"، فقال علي: حكم الله أنتظر فيكم. ثم قال بيده هكذا يسكتهم بالإشارة، وهو على المنبر حتى أتى رجل منهم واضعًا إصبعيه في أذنيه[24] وهو يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]. فقال علي: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ﴾ [الروم: 60].
وأعلن أمير المؤمنين علي سياسته الراشدة العادلة تجاه هذه الجماعة المتطرفة، فقال لهم: إن لكم عندنا ثلاثًا: لا نمنعكم صلاةً في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا[25].
فقد سلم لهم أمير المؤمنين علي  بهذه الحقوق ما داموا لم يقاتلوا الخليفة، أو يخرجوا على جماعة المسلمين، مع احتفاظهم بتصوراتهم الخاصة في إطار العقيدة الإسلامية فهو لا يخرجهم بداية من الإسلام، وإنما يسلم لهم بحق الاختلاف دون أن يؤدي إلى الفُرقة وحمل السلاح[26].
وعنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَنَحْنُ عِنْدَهَا جُلُوسٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقِ لَيَالِيَ قُتِلَ عَلِيٌّ ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ تُحَدِّثُنِي عَنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ؟
قَالَ: وَمَا لِي لاَ أَصْدُقُكِ!
قَالَتْ: فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ.
قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا  لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَمَ الْحَكَمَانِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلاَفٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: حَرُورَاءُ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَإِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاسْمٍ سَمَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللَّهِ فَلاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى. فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا أَنْ امْتَلأَتْ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: أَيُّهَا الْمُصْحَفُ، حَدِّثْ النَّاسَ.
فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا تَسْأَلُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِينَا مِنْهُ، فَمَاذَا تُرِيدُ؟
قَالَ: أَصْحَابُكُمْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ خَرَجُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35].
فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ  أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنْ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ. وَنَقَمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ". فَقَالَ سُهَيْلٌ: لاَ تَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: "كَيْفَ نَكْتُبُ؟" فَقَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "فَاكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ". فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُخَالِفْكَ. فَكَتَبَ "هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُرَيْشًا"[27]، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ [الأحزاب: 21].
وعندما أيقن الخوارج أن عليًّا عازم على إنفاذ أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما- حكمًا، طلبوا منه الامتناع عن ذلك، فأبى عليٌّ عليهم ذلك، وبيّن لهم أن هذا يعدّ غدرًا ونقضًا للأيمان والعهود، فقد كتب بينه وبين القوم عهودًا، وقد قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 91].
فقرر الخوارج الانفصال عن عليٍّ وتعرضوا له في خطبه، وأسمعوه السبَّ والشتم والتعريض بآيات من القرآن[28].
ثم اجتمع الخوارج لتعيين أمير عليهم في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهّدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة.
ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].
ثم قام سنان بن حمزة الأسدي فقال: يا قوم، إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عمادٍ وسنان، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها. فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي -وكان من رءوسهم- فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شُريح بن أبي أوفى العبسيّ فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبةً في الدنيا ولا أدعها فَرَقًا من الموت[29].
واجتمعوا أيضًا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26].
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]. ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حقٌّ على المؤمنين. فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرّض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قُتلتم فأيُّ شيءٍ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟!
ويعلق ابن كثير على فساد عقيدتهم فيقول: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوّع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم!"[30].
وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون[31] في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف: 103-105].
"والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلاَّل، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها، ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها ويكون اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشًا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعاتٍ، ولكن اخرجوا وحدانًا؛ لئلاّ يفطن بكم. فكتبوا كتابًا عامًّا إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدًا واحدة على الناس.
ثم خرجوا يتسللون وحدانًا لئلاّ يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زيّنه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته، إنه مجيب الدعوات. وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنّبوهم ووبّخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنه من فرّ بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة"[32].
فكتب عليٌّ إلى الخوارج بالنهروان: أما بعد، فقد جاءكم ما كنتم تريدون، قد تفرّق الحكمان على غير حكومة ولا اتفاق، فارجعوا إلى ما كنتم عليه؛ فإني أريد المسير إلى الشام. فأجابوه أنه لا يجوز لنا أن نتخذك إمامًا وقد كفرت حتى تشهد على نفسك بالكفر، وتتوب كما تبنا، فإنك لم تغضب لله، إنما غضبت لنفسك. فلما قرأ جواب كتابه إليهم يئس منهم؛ فرأى أن يمضي من معسكره بالنخيلة وقد كان عسكر بها -حين جاء خبر الحكمين- إلى الشام، وكتب إلى أهل البصرة في النهوض معه[33].

[1] الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/207، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113، الشهرستاني: الملل والنحل 1/132، ابن حجر: هدي الساري في مقدمة فتح الباري ص459.
[2] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/207.
[3] أديم مقروظ: في جلد مدبوغ بالقرظ.
[4] أي: لم تميز ولم تصف من تراب معدنها.
[5] صحيح البخاري (4004)، صحيح مسلم (1763)، مسند أحمد (10585).
[6] صحيح البخاري (3341)، ( 5697)، (6421)، سنن ابن ماجه (168)، مسند أحمد (11112)، (14276)، (14292).
[7] ابن الجوزي: تلبيس إبليس ص90.
[8] ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/157.
[9] الشهرستاني: الملل والنحل 1/134.
[10] د. ناصر علي عائض حسن الشيخ: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام 3/1141.
[11] ابن كثير: البداية والنهاية 7/202.
[12] العواجي: فرق معاصرة 1/67، عبد الحميد علي ناصر فقيهي: خلافة علي بن أبي طالب ص297، د. علي الصلابي: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص16.
[13] صحيح البخاري (3341 ).
[14] صحيح مسلم (1771).
[15] صحيح مسلم (1776).
[16] سنن أبي داود (4137).
[17] مسند أحمد (635).
[18] البغدادي: تاريخ بغداد 1/160.
[19] النسائي: خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص200.
[20] ابن كثير: البداية والنهاية 7/280، 281.
[21] مصنف عبد الرزاق 10/157-160.
[22] د. علي محمد الصلابي: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص22.
[23] النسائي: خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص200.
[24] ابن أبي شيبة الكوفي: المصنف 1/733، 734، الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/114.
[25] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/114.
[26] حامد عبد الماجد: الوظيفة العقدية للدولة الإسلامية ص47.
[27] مسند أحمد (621).
[28] ابن كثير: البداية والنهاية 7/315، د. الصلابي: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص29.
[29] ابن كثير: البداية والنهاية 7/316.
[30] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[31] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[32] ابن كثير: البداية والنهاية 7/317.
[33] البلاذري: أنساب الأشراف 1/343.

الزيارات:
قصة الخوارج - الجزء التاني

معركة النهروان 38هـ
سبب المعركة:
كانت الشروط التي أخذها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  على الخوارج أن لا يسفكوا دمًا ولا يروعوا آمنًا ولا يقطعوا سبيلاً، وإذا ارتكبوا هذه المخالفات فقد نبذ إليهم الحرب؛ ونظرًا لأن الخوارج يكفرون من خالفهم ويستبيحون دمه وماله، فقد بدءوا بسفك الدماء المحرمة في الإسلام، وقد تعددت الروايات في ارتكابهم المحظورات؛ فعن رجل من عبد القيس قال: كنت مع الخوارج فرأيت منهم شيئًا كرهته، ففارقتهم على أن لا أكثر عليهم، فبينا أنا مع طائفة منهم إذ رأوا رجلاً خرج كأنه فزع، وبينهم وبينه نهر، فقطعوا إليه 
النهر فقالوا: كأنَّا رعناك؟
قال: أجل.
قالوا: ومن أنت؟
قال: أنا عبد الله بن خباب بن الأرَتّ.
قالوا: عندك حديث تحدثناه عن أبيك عن رسول الله ؟
قال: سمعته يقول: إنه سمع النبي  يقول: "إن فتنة جائية القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، فإذا لقيتهم، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فلا تكن عبد الله القاتل"[34].
فأخذوه وسرية له معه، فمرّ بعضهم على تمرة ساقطة من نخلة فأخذها فألقاها في فِيه، فقال بعضهم: تمرة معاهد، فبم استحللتها؟ فألقاها من فيه، ثم مروا على خنزير فنفحه بعضهم بسيفه، فقال بعضهم: خنزير معاهد، فبم استحللته؟
فقال عبد الله: ألا أدلكم على ما هو أعظم عليكم حرمة من هذا؟!
قالوا: نعم.
قال: أنا. فقدموه فضربوا عنقه، فرأيت دمه يسيل على الماء كأنه شراك نعل اندفر بالماء حتى توارى عنه، ثم دعوا بسرية له حبلى فبقروا عما في بطنها[35].
فأثار هذا العمل الرعب بين الناس وأظهر مدى إرهابهم ببقر بطن هذه المرأة وذبحهم عبد الله كما تذبح الشاة، ولم يكتفوا بهذا بل صاروا يهددون الناس قتلاً، حتى إن بعضهم استنكر عليهم هذا العمل قائلين: ويلكم ما على هذا فارقنا عليًّا[36].
بالرغم من فظاعة ما ارتكبه الخوارج من منكرات بشعة، لم يبادر أمير المؤمنين علي  إلى قتالهم، بل أرسل إليهم أن يسلموا القتلة لإقامة الحد عليهم، فأجابوه بعناد واستكبار: وكيف نقيدك وكلنا قتله؟ قال: أوَكلكم قتله؟ قالوا: نعم[37]. فسار إليهم بجيشه الذي قد أعدَّه لقتال أهل الشام في شهر المحرم من عام 38هـ، وعسكر على الضفة الغربية لنهر النهروان، والخوارج على الضفة الشرقية بحذاء مدينة النهروان[38].
وكان أمير المؤمنين علي  يدرك أن هؤلاء القوم هم الخوارج الذين عناهم رسول الله  بالمروق من الدين؛ لذلك أخذ يحث أصحابه أثناء مسيرهم إليهم ويحرضهم على قتالهم.
وعسكر الجيش في مقابلة الخوارج يفصل بينهما نهر النهروان، وأمر جيشه ألاّ يبدءوا بالقتال حتى يجتاز الخوارج النهر غربًا، وأرسل علي  رسله يناشدهم الله ويأمرهم أن يرجعوا، وأرسل إليهم البراء بن عازب  يدعوهم ثلاثة أيام فأبوا[39]، ولم تزل رسله تختلف إليهم حتى قتلوا رسله، واجتازوا النهر.
وعندما بلغ الخوارج هذا الحد وقطعوا الأمل في كل محاولات الصلح وحفظ الدماء، ورفضوا عنادًا واستكبارًا العودة إلى الحق وأصروا على القتال، قام أمير المؤمنين بترتيب جيشه وتهيئته للقتال، فجعل على ميمنته حجر بن عدي وعلى الميسرة شبث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرَّجَّالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة -وكانوا سبعمائة- قيس بن سعد بن عبادة، وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج، ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا. فانصرف منهم طوائف كثيرون، وكانوا أربعة آلاف فلم يبقَ منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي[40].
نشوب القتال:
زحف الخوارج إلى علي  فقدّم عليٌّ بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصفّ الرجّالة وراء الخيّالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدءوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة. وبعد معركة حاسمة وقصيرة أخذت وقتًا من اليوم التاسع من شهر صفر عام 38هـ، وأسفرت هذه المعركة الخاطفة عن عددٍ كبير من القتلى في صفوف الخوارج، فتذكر الروايات أنهم أصيبوا جميعًا، ويذكر المسعودي: أن عددًا يسيرًا لا يتجاوز العشرة فروا بعد الهزيمة الساحقة[41]. أما جيش علي  فقد قُتل منه رجلان فقط[42]. وقيل: قتل من أصحاب عليٍّ اثنا عشر أو ثلاثة عشر[43]. وقيل: لم يقتل من المسلمين إلا تسعة رهط[44].
ذو الثدية وأثر مقتله في جيش علي:
كان علي  يتحدث عن الخوارج منذ ابتداء بدعتهم، وكثيرًا ما كان يتعرض إلى ذكر ذي الثُّدَيَّة، وأنه علامة هؤلاء، ويسرد أوصافه، وبعد نهاية المعركة الحاسمة أمر علي أصحابه بالبحث عن جثة المُخْدَجِ؛ لأن وجودها من الأدلة على أن عليًّا  على حقٍّ وصواب. وبعد مدة من البحث مرت على عليٍّ  وأصحابه، وجد أمير المؤمنين علي جماعة مكوّمة بعضها على بعض عند شفير النهر، قال: أخرجوهم. فإذا المخدج تحتهم جميعًا مما يلي الأرض، فكبّر علي ! ثم قال: صدق الله وبلّغ رسوله! وسجد سجود الشكر، وكبّر الناس حين رأوه واستبشروا[45].
معاملة علي للخوارج:
عامل أمير المؤمنين علي  الخوارج قبل الحرب وبعدها معاملة المسلمين، فما إن انتهت المعركة حتى أصدر أمره في جنده ألاّ يتبعوا مُدبِرًا أو يذففوا على جريح أو يمثِّلوا بقتيل، يقول شقيق بن سلمة المعروف بأبي وائل -أحد فقهاء التابعين وممن شهد مع عليٍّ حروبه-: لم يسْبِ عليٌّ  يوم الجمل ولا يوم النهروان[46].

الثورة المستمرة وخلافاتهم وانقسامهم
إن فرقة من فرق الإسلام لم تسلك طريق الثورة كما سلكته فرقة الخوارج، حتى لقد أصبحت ثوراتهم وانتفاضاتهم أشبه بالثورة المستمرة في الزمان والمنتشرة في المكان ضد الأمويين، بل وضد علي بن أبي طالب  منذ التحكيم وحتى انقضاء عهده سنة 40هـ. وعلى درب ثورتهم المستمرة هذه كانت معاركهم المتفردة بالاستبسال والفناء في الهدف والمبدأ، معالم تستنفر دماء شهدائهم وذكريات ضحاياهم فيها اللاحقين للاقتداء بالسابقين.
وبعد هزيمتهم في النهروان بشهرين تجددت ثورتهم فقاتلوا جيش علي  ثانية في الدَّسْكَرَة بأرض خراسان في ربيع الثاني سنة 38هـ، وكانت قيادتهم لأشرس بن عوف الشيباني.
وفي الشهر التالي لهزيمة الدسكرة تجددت ثورتهم بقيادة هلال بن علفة وأخيه مجالد فقاتلوا جيش عليٍّ  للمرة الثالثة عند (ماسبذان) بأرض فارس في جمادى الأولى سنة 38هـ.
وبعد هزيمة ماسبذان قادهم الأشهب بن بشر البجلي في خروج آخر في نفس العام، فحاربوا في جرجرايا على نهر دجلة.
وفي رمضان سنة 38هـ زحفوا بقيادة أبي مريم -من بني سعد تميم- إلى أبواب الكوفة، فحاربوا جيش علي بن أبي طالب ، وهُزِمُوا هناك.
وبعد مقتل علي وتنازل ابنه الحسن لمعاوية  بدأت حرب الخوارج لأهل الشام، ولقد كادوا يهزمون جيش معاوية في أول لقاء لهم به، لولا أن استعان عليهم بأهل الكوفة.
وفي سنة 41هـ قاد سهم بن غالب التميمي والخطيم الباهلي تمردًا داخليًّا ضد بني أمية استمر حتى قضى عليه زياد بن أبيه قرب البصرة سنة 46هـ، أي بعد خمس سنوات[47].
واستمرت ثوراتهم ضد الأمويين، ففي آخر شوال سنة 64هـ بدأت ثورتهم الكبرى بقيادة نافع بن الأزرق، وهي الثورة التي بدأت بكسر أبواب سجون البصرة، ثم خرجوا يريدون الأهواز.
وفي سنة 76هـ وسنة 77هـ تمكّنوا بقيادة شبيب بن يزيد بن نعيم من إيقاع عدة هزائم بجيوش الحجاج بن يوسف الثقفي.
وغير ذلك من الثوارات التي استمرت حتى أواخر الدولة الأموية.
وجدير بالذكر أن هذه الثورات الخارجية وإن لم تنجح في إقامة دولة مستقرة يستمر حكم الخوارج فيها طويلاً إلا أنها قد أصابت الدولة الأموية بالإعياء حتى انهارت انهيارها السريع تحت ضربات الثورة العباسية في سنة 132هـ؛ فالعباسيون قد قعدوا عن الثورة قُرابة قرن بينما قضى الخوارج هذا القرن في ثورة مستمرة، ثم جاء القَعَدَةُ فقطفوا ثمار ما زرعه الثوّار[48].

خلافات وانقسامات الخوارج
الخوارج مثلهم كمثل سائر الفرق الإسلامية لم يمنعهم الاتفاق في الأصول من الاختلاف في الفروع والمسائل، فشهد تاريخهم عددًا من الانقسامات قادها عدد من أعلامهم وأئمتهم، ولقد ظل الخوارج بعيدين عن الانقسام حتى عهد إمامهم نافع بن الأزرق (65هـ)، الذي مثّلت فرقته "الأزارقة" أول انقسام داخل تيار الخوارج العام.
وبعد أن استشرت الانقسامات والاختلافات في المسائل والفروع ظلت الجماعات الرئيسية في حركة الخوارج هي:
1- الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق.
2- النجدات: أتباع نجدة بن عامر الحنفي.
3- الإباضية: أتباع عبد الله بن إباض.
4- الصفرية: نسبة إلى زياد الأصفر، أو النعمان بن الأصفر، أو عبد الله بن صفّار على خلاف في ذلك.
ولقد انقرضت هذه الفروع الخارجية ولم يبقَ من الخوارج سوى الإباضية الذين لا تزال لهم بقايا حتى الآن في أجزاء من الوطن العربي وشرقي إفريقيا، وبالذات في عُمان على الخليج العربي، وفي أنحاء من المغرب العربي (تونس والجزائر)، وفي الجنوب الشرقي للقارة الإفريقية (زنجبار)[49]. 

عقائد الخوارج
مع مرور الزمن استقرت آراء عقائدية خاصة بفرقة الخوارج، خالفوا فيها كتاب الله وسنة رسوله ، ومن هذه الاعتقادات:
1- تكفير صاحب الكبيرة:
إن الخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بخلوده في النار، وقد استدلوا على معتقدهم ذلك بأدلة، منها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]. فقد استدلوا بهذه الآية على تخليد أصحاب المعاصي في النار، وقالوا: إنه لا أمل للعاصي الذي يموت على معصيته في رحمة الله[50]. فزعموا أن الخطيئة تحيط بالإنسان، فلا يبقى له معها حسنة مقبولة، حتى الإيمان فإنها تذهبه. ولكن الأمر عكس ما ذهبوا إليه تمامًا، وهذه الآية نفسها تردّ مذهبهم، فقد دلت على أن من أحاطت به خطيئته فإنه يخلد في النار، وليس هناك خطيئة تحيط بالإنسان وتحبط أعماله ويخلد بسببها في النار إلا الكفر والشرك بالله. ويؤيد هذا أن تلك الآية نزلت في اليهود، وهم قد أشركوا بالله وحادوا عن سبيله[51].
2- وكان الأزارقة -فرقة من غلاة الخوارج- يقولون: إن جميع مخالفيهم من المسلمين مشركون، وإن من لا يسارع إلى دعوتهم واعتناق مذهبهم فإن دمه ودم نسائه وأطفاله حلال، وقد كفّروا علي بن أبي طالب  واعتبروا قاتله عبد الرحمن بن ملجم شهيدًا بطلاً[52].
3- وإن (النجدات) من الخوارج يرون أنه لا حاجة إلى إمامٍ إذا أمكن الناس أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن التناصف لا يتم إلا بإمام يحملهم على الحق فأقاموه جاز، فإقامة الإمام -في نظرهم- ليست واجبة بإيجاب الشرع، بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة[53].
4- الخلافة لا تنحصر في قومٍ بعينهم:
كان الخوارج يرون أن الخلافة لا ينبغي أن تنحصر في قوم بعينهم، بل إن كل مسلم صالح للخلافة ما دام قد توافرت فيه شروطها من إيمان وعلم واستقامة، شريطة أن يبايع بها، ولا بأس بعد ذلك في أن يكون من الفرس أو الترك أو الحبش؛ فالمعنى العصبي الأرستقراطي بعيد عن تفكيرهم، بل عدو لمنهجهم ومسلكهم، واقتصار الخلافة على جنس بعينه -كالجنس العربي- أمر يحاربونه كل المحاربة[54].
فخرجوا على أئمة المسلمين عند أتفه الأسباب، وقد فعلوا ذلك مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  فسفكوا الدماء وقطعوا السبل وضيعوا الحقوق، وسعوا في إضعاف المسلمين حتى تكالبت عليهم الأعداء.
ومما سبق يتضح أن الخوارج خالفت ما كان عليه جمهور المسلمين من اشتراط النسب القرشي في الإمام، وقالوا: إنه لا خصوصية لقريش فيها ولا مزية لهم عن سواهم، بل كل ما صار أهلاً لها، جاز توليته من دون أي نظر في نسبه[55].
5- الثورة على أئمة الجور:
أجمع الخوارج على وجوب الخروج (الثورة) على أئمة الجور والفسق والضعف؛ فعندهم أن الخروج يجب إذا بلغ عدد المنكرين على أئمة الجور أربعين رجلاً ويسمون هذا الحد "حد الشراء"، أي الذين اشتروا الجنة عندما باعوا أرواحهم فعليهم وجب الخروج حتى يموتوا أو يظهر دين الله ويخمد الكفر والجور. ولا يحل عندهم المقام والقعود غير ثائرين إلا إذا نقص العدد عن ثلاثة رجال، فإن نقصوا عن الثلاثة جاز لهم القعود وكتمان العقيدة، وكانوا على "مسلك الكتمان".
وهناك غير "حد الشراء" و"مسلك الكتمان" حد الظهور، وذلك عند قيام دولتهم ونظامهم تحت قيادة "إمام الظهور" و"حد الدفاع" وهو التصدي لهجوم الأعداء تحت قيادة إمام الدفاع[56]. ويعبر أبو الحسن الأشعري عن إجماع الخوارج على وجوب الثورة بقوله: "وأما السيف فإن الخوارج تقول به وتراه إلا أن الإباضية لا ترى اعتراض الناس بالسيف، ولكنهم يرون إزالة أئمة الجور ومنعهم من أن يكونوا أئمة بأي شيء قدروا عليه، بالسيف أو بغير السيف"[57].
6- إثبات إمامة الصِّدِّيق والفاروق وتكفير عثمان وعلي :
فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضا المؤمنين ورغبتهم وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيِّرا ولم يبدلا حتى توفهما الله تعالى. وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، لكنهم هلكوا فيمن بعدهما؛ حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي -رضي الله عنهما- فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان  في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة عليٍّ أيضًا بعد التحكيم ، بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما، وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عباس ، وأصحاب الجمل وصفين.
وقد دوّن أهل العلم هذا المعتقد السيِّئ عنهم في كتبهم[58]، فقد قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان -رضوان الله عليهم- في وقت الأحداث التي نقم عليه من أجلها، ويقولون بإمامة عليٍّ قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم، ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري"[59].
7- الاختيار والبيعة هما الطريق لنصب الإمام:
يقف الخوارج مع الرأي القائل بأن "الاختيار والبيعة" هما الطريق لنصب الإمام، ومن ثَمَّ فهم أعداء لفكر الشيعة القائل: إن الإمامة شأن من شئون السماء لا اختصاص فيها للبشر، وإن السماء قد حددت لها أئمة بذواتهم نصّت عليهم، وأوصت لهم قبل وفاة الرسول .
وهم أعداء كذلك لمن زعم من السُّنة أن النص والوصية والتعيين قد سبقت من الرسول  بالإمامة والخلافة لأبي بكر الصديق ، مثل فرقة "البكرية".
وعندهم -أيضًا- أن الإمامة من الفروع فليست من أصول الدين -خلافًا للشيعة-؛ ولذلك قالوا: إن مصدرها هو الرأي وليس الكتاب أو السنة[60].
8- إثبات صفة العدل لله:
اتفق الخوارج على نفي الجور عن الله I بمعنى إثبات القدرة والاستطاعة المؤثرة للإنسان، ومن ثَمَّ تقرير حريته واختياره؛ ففعله المقدور له هو من صنعه على سبيل الحقيقة لا المجاز، ومن هنا فإن مسئوليته متحققة عن فعله هذا، فجزاؤه بالثواب والعقاب عدل، على عكس مؤدَّى قول الجبرية الذي يقتضي قولهم بالجبر إلحاق الجور بالخالق -تعالى عن ذلك- لإثابته من لا يستحق، وعقابه من لا حيلة له في الذنب ولا سبيل له للفكاك من المكتوب المقدور[61].
9- تنزيه الذات الإلهية عن أي شبهة بالمحدثات:
أجمع الخوارج على تنزيه الذات الإلهية عن أي شبهة بالمحدثات بما في ذلك نفي مغايرة صفات الله لذاته، أو زيادتها عن الذات، وذلك حتى لا يفتح الباب لشبهة توهم تعدد القدماء، وانطلاقًا من هذا الموقف قالوا: بخلق القرآن -كلام الله- حتى لا يؤدي القول "بقدم الكلمة" إلى ما أدى إليه في المسيحية، عندما قال اللاهوتيون بالتثليث؛ لأن "كلمة الله " -عيسى بن مريم- قديمة كالله[62].
10- صدق وعد الله ووعيده:
قالت الخوارج بصدق وعد الله للمطيع، وصدق وعيده للعاصي دون أن يتخلف وعده أو وعيده لسبب من الأسباب[63].
11- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
تميز موقف الخوارج عن بعض الذين قالوا بهذا الأصل من أهل السنة وأصحاب الحديث، ذلك أن الخوارج قد جعلوا لهذا الأصل صلة وثيقة بالفكر السياسي، والتغيير للظلم والجور الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات كما جعلوا القوة -قضية السيف- أداة أصيلة وسبيلاً رئيسيًا من أدوات النهي عن المنكر، وسبل التغيير للجور والفساد[64].
12- وفوق ذلك فإن الخوارج قد جمعتهم تقاليد اشتهرت عنهم في القتال، وزهد اتصفوا به في الثروة، فحررهم ذلك من قيود الحرص على الاقتناء، وأعانهم على الانخراط في الثورات والرحيل الأسرع في ركاب الجيوش الثائرة[65].
دول الخوارج
برزت الخوارج الصفرية في المغرب الأقصى وسيطرت عليه، وظهرت الخوارج الإباضية في المغرب الأدنى والأوسط، وأخضعت أجزاء واسعة لنفوذها[66].
فقد قامت دولة للخوارج الصفرية في سجلماسة تدعى (دولة بني مدرار)[67].
كما قامت دولة للخوارج الإباضية في (تاهرت)، إذ أسسوا هذه المدينة عام 161هـ، وأصبح عبد الرحمن بن رستم إمامًا لهذه الدولة (الدولة الرستمية)، التي استمرت من سنة 160هـ حتى سنة 296هـ[68].
أما القطر العماني فقد ظل منذ فجر الإسلام مستقرًّا للمذهب الإباضي، وكان من الأمور الطبيعية أن يسيطر أبناء المذهب على نظام الحكم فيه في شكل إمامة تستمد نظام حكمها وأحكامها من المذهب الشائع بين أهل البلاد.
الإمامة الأولى (إمامة الجلندى):
بدأت الإمامة الأولى في عمان المستقلة سنة 132هـ على وجه التحديد، وهي السنة التي سقطت فيها دولة بني أمية وقامت دولة بني العباس، وكان أول إمام هو الجلندَى بن مسعود بن جلندَى الجلنداني.
ومن الأحداث الطريفة التي ارتبطت بالسنة التي تولى فيها الجلندى الإمامة 132هـ أنه فضلاً عن سقوط بني أمية وقيام خلافة بني العباس، اجتمع فيها ثلاثة أئمة في وقت واحد هم: الجلندى في عمان، وطالب الحق عبد الله بن يحيى في اليمن، وأبو الخطاب المعافري في إفريقية، والأمر الأكثر طرافة أن ثلاثتهم من الإباضية؛ ومن ثَمَّ فقد أطلق على تلك السنة سنة الإمامة.
إمامة الخروصيين:
ظلت أمور عمان مضطربة حتى قيض الله لتلك البلاد إمامًا من بني خروص هو الوارث بن كعب الذي بويع له سنة 179هـ، وقد عاشت دولة بني خروص حتى بعد سنة 400هـ بقليل.
لقد انتهت إمامة الخروصيين نهاية حزينة وآلت من بعدهم إلى النباهنة الذين لم تكن حال عمان في عصرهم -من حيث الأمن والاستقرار- بأفضل من عهد سابقيهم، الأمر الذي هيأ لإمامة جديدة في أسرة جديدة.
إمامة اليعاربة:
كان ناصر بن مرشد بن سلطان اليعربي الحميري الأزدي أول إمام يعربي ولي الإمامة سنة 1034هـ.
إمامة البوسعيدية:
انتقل ملك اليعاربة إلى أحمد بن سعيد البوسعيدي سنة 1154هـ، وهو جَدُّ الأسرة الحاكمة في عمان في الوقت الحالي[69].

[34] مصنف ابن أبي شيبة 8/732.
[35] مصنف ابن أبي شيبة 8/732، 733، الطبري: تاريخ الأمم والملوك 3/118، البغدادي: تاريخ بغداد 1/94.
[36] مصنف ابن أبي شيبة 8/737 .
[37] المصدر السابق، الصفحة نفسها.
[38] د. الصلابي: فكر الخوارج والشيعة ص33.
[39] البيهقي: السنن الكبرى 8/179.
[40] د. الصلابي: فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة ص34.
[41] المصدر السابق ص34-36.
[42] صحيح مسلم (1773).
[43] ابن أبي شيبة الكوفي: المصنف 5/311.
[44] البغدادي: تاريخ بغداد 1/83.
[45] ابن أبي شيبة الكوفي: المصنف 15/317-319.
[46] البيهقي: السنن الكبرى 8/182.
[47] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص27، 28.
[48] المصدر السابق ص29، 30.
[49] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص31-33.
[50] علي يحيى معمر: الإباضية في موكب التاريخ 1/133.
[51] الشوكاني: فتح القدير 1/105.
[52] د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص133.
[53] الإمام أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية.
[54] د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص130.
[55] أبو الحسن الأشعري: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/204، ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/89،
د. الصلابي: فكر الخوارج والشيعة ص55، 56.
[56] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص22.
[57] الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/32.
[58] د. ناصر علي عائض حسن الشيخ: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام 3/1157، د. الصلابي: فكر الخوارج والشيعة ص61.
[59] الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/204.
[60] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص23.
[61] المصدر السابق ص24.
[62] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[63] د. محمد عمارة: تيارات الفكر الإسلامي ص24.
[64] المصدر السابق ص24.
[65] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[66] محمود شاكر: الدولة العباسية 5/87.
[67] المصدر السابق 5/161.
[68] السابق نفسه 5/134، د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص163.
[69] د. مصطفى الشكعة: إسلام بلا مذاهب ص151-159.

الزيارات:
النصراني والعالم السني

قصة غريبة مفيدة جدا
بسم الله، وبالله، والأسماء الحسنى كلها لله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله . أما بعد:
فهذه قصة قصيرة ممتعة مليئة بالفوائد والعبر، وهي مَثَل يستفيد منها كل من قرأها واعتبر:

رجل نصراني قرّر ألا يعتقد شيئا إلا بعد السؤال عن الدليل، وبهذه الطريقة الحكيمة اقتنع ببطلان عقيدة النصارى الضالين، وأراد أن يبحث عن دين الله رب العالمين، فدُلّ على الإسلام فقال: لابد أن أسأل عنه. فدُلّ على إمامين في مسجدين، فذهب إلى أحدهما فقال: أريد أن أعرف بعض الأشياء عن الإسلام، فقال: مرحبا بك وسل عما بدا لك.
قال: من تعبدون ؟
قال: الله الذي خلق كل شيء.
قال: أين الله ؟
قال: لا يجوز أن تسأل هذا السؤال !
قال : كيف أعبد الله وأنا لا أعرف أين هو ؟!
قال الإمام: الله في كل مكان.
قال: وهل سيراه من يعبده ؟
قال: لن يراه أحد سواء كان يعبده أو لا يعبده ، فالمؤمنون والكافرون عن ربهم يوم القيامة محجوبون !
قال: لو أسلمت وحافظت على الصلوات وامتثلت جميع الواجبات بقدر استطاعتي وتركت المحرمات إلا أني وقعت في بعض المعاصي ومُتُّ قبل أن أتوب فما حالي ؟
قال: ستدخل نار جهنم خالدا فيها أبدا !
قال: حتى لو كنت في حياتي أجتهد في الصلوات الفريضة والنافلة وأقرأ القرآن وأصوم وأتصدق ؟!
قال: نعم، ولا تنفعك أعمالك الصالحة ولو بَلَغَتْ عَنان السماء، ولن يرحمك الله ولو بقيت في النار ألف عام، ولا يُخرِج الله أحدا من النار ولو كان طوال حياته من البررة ثم وقع في كبيرة ولو كذبة أو غِيبة أو نميمة ولم يتب منها، ولا تُصدِّق الأحاديث التي رواها الصحابة وذكروا أن الله يُخرج من النار بعض المسلمين الذين دخلوها، فمن دخل النار من المسلمين لن يخرج منها أبدا كالكافرين.
قال: ما رأيك في الصحابة ؟
قال: هم شر الناس ، لم يُنفِّذوا وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أوصى أن تكون الخلافة بعده للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وذريته من بعده.
فقال النصراني : هذا دين باطل ، ولا أدري كيف تعبدون الله وأنتم تزعمون أنه في كل مكان حتى في القمامات والمراحيض، أنا لم أقتنع بقول النصارى : إن الله حلَّ في عيسى فقط ، فكيف أُصدِّق أنه حلَّ في الكلاب والخنازير وأنه في كل مكان !! وقد فتحت علبة أناناس قبل أن آتي إليك فلم أجد الله فيها , فهل هو هواء حتى تقول: إنه في كل مكان ؟!
ثم كيف لا يراه من عبده ومن لم يعبده ويكونون سواء ؟!
ثم ما ينفعني هذا الدين الذي ليس فيه رحمة لأتباعه ، فلو عبدتُّ الله خمسين سنة ووقعتُ في معصية واحدة سأُخلَّد في نار جهنم كالكفرة، ولا يرحمني الله إذا كنت ضعيف الإيمان، ولا تنفعني شفاعة الشافعين وقد كنت من المسلمين !!
ثم كيف أثق بالقرآن والسنة والذين نقلوهما هم شر الناس كما تزعم ؟!
وقد كنت أسمع أن نبيكم محمدا  أعظم رجل في التاريخ والآن شكَّكَّتني في ذلك حيث تزعم أنه فشل في تربية أصحابه فما إن مات حتى خالفوا وصيته، وتزعم أنه أراد أن تكون الخلافة في ذريته ، فهل هو نبي أو ملِك ؟!!

ثم ذهب النصراني إلى الإمام الآخر في مسجده فقال له : أريد أن أسألك خمسة أسئلة مهمة تتعلق بالإسلام .
 فقال له : تفضَّل.
قال : أجبني عنها بالأدلة الصريحة الصحيحة.
قال : إن شاء الله. قال :
1.  أين الله ؟
قال: في السماء. قال الله تعالى: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ .﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ .﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، وقصة المعراج تدل على علو الله، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجارية :" أين الله ؟ قالت : في السماء. قال لسيدها : اعتقها فإنها مؤمنة "، وقال عليه الصلاة والسلام: " ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء" أي مَن على السماء، ولا يحيط بالله شيء فهو العلي الأعلى المتعال، له العلو المطلق من جميع الوجوه : علو الذات والقدر والقهر، علو لا يستلزم التمثيل والتشبيه، فقد أخبر الله عن نفسه أنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، سُئل الإمام مالك رحمه الله عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وهكذا كل صفة من صفات الله الثابتة في كتابه أو سنة رسوله يجب الإيمان بها كما أخبرنا بها بلا تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل، والأدلة على أن الله فوق السماء أكثر من ألف دليل كما قال العلماء، وانظر إن شئت كتاب مختصر العلو للعلي الغفار للحافظ الذهبي المتوفى سنة 748هـ .
ولا خلاف أن علم الله في كل مكان، قال الله سبحانه مبيِّنا سعة علمه : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
 . ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾، قال العلماء : بُدِئت الآية بالعلم وخُتِمت بالعلم .
2.   هل نرى الله ؟
قال: المؤمنون سيرونه يوم القيامة، وأما الكافرون فلا يرونه . قال الله : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.  ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾، ورؤية المؤمنين لله تكون بلا إحاطة، فالله أعظم من أن تُحيط به الأبصار،  فالمؤمنون بقدرة الله ـ وهو على كل شيء قدير ـ  يرونه بلا إدراك كما قال سبحانه : ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾، كما أننا نرى السماء ولا ندركها، ونرى البحر ولا ندركه ؛ فكذلك يرى المؤمنون الله يوم القيامة ولا يدركونه، ولا تعارض بين الأدلة، وكلها حق من عند الله، ويجب أن نؤمن بها كلها، ولا نكون من أهل البدع الذين يتَّبِعون المتشابه ليردوا به المحكم ويُضِلوا أتباعهم ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ .
  وأحاديث رؤية المؤمنين لربهم متواترة رواها الثقات الذين نقلوا لنا القرآن والأحكام والحلال والحرام، وراجع إن شئت كتاب الرؤية للحافظ الكبير أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني المتوفى سنة 385هـ  .

3.  لو أسلمت وامتثلت الواجبات بقدر استطاعتي وتركت المحرمات إلا أني وقعتُ في بعض المعاصي ومتُّ قبل أن أتوب فهل أُخَلَّدُ في النار ؟
قال : معاذ الله ! فالله هو أرحم الراحمين، ومن وقع في كبيرة لم يتب منها فهو تحت مشيئة الله الغفار، إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه بقدر ذنبه ثم أخرجه من النار، ولا يُخلِّد الله في النار إلا الكفار، قال الله تعالى : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وأحاديث الشفاعة وخروج الموحِّدين من النار صحيحة متواترة لا ينكرها إلا المعتزلة والخوارج وهم أجهل الناس بالسُّنة، لأنهم لا يرجعون إلى أهل الحديث لمعرفة الصحيح والضعيف، وانظر إن شئت بعض أحاديث الشفاعة وطرقها في تفسير الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774هـ في تفسير سورة الإسراء آية (79) ﴿عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ .

4.  ما رأيك في الصحابة ؟
قال: هم خير هذه الأمة، آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم، وحفظوا القرآن والسنة وبلَّغوهما من بعدهم، ونشروا الإسلام وفتحوا البلدان، فجزاهم الله عن المسلمين خيرا، وقد أخبرنا الله في كتابه أنه رضي عنهم وأرضاهم، وأمرنا أن نستغفر لهم ذنوبهم ، فلا معصوم إلا الأنبياء، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم والخوض في مساويهم، وقال الله تعالى:﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

5. هل أوصى النبي بالخلافة لعلي ؟
قال: لا، ولا يوجد أي دليل على ذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرض موته أمر أبابكر الصديق رضي الله عنه أن يصلي بالناس ويقوم مقامه في أمر الدين، ومات وترك الأمر للمسلمين، ولم يوص أحدا، فتشاور المسلمون فبايعوا أبابكر الذي رضيه النبي لدينهم فاختاروه لدنياهم، وله من الفضل ما لا ينكره إلا أعمى البصيرة، فهو أول من أسلم من الرجال، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأنفق ماله كله في سبيل الله، وكان أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح، وتزوَّج ابنته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقد كان علي بن أبي طالب يُحبه ويُفضِّله على نفسه، فقد سأله ابنه محمد ابن الحنفية : من أفضل الناس بعد النبي ؟ فقال علي : أبوبكر ثم عمر. وأعلن علي رضي الله عنه بذلك على منبر أهل الكوفة كما تواتر ذلك عنه، وقد سمَّى أمير المؤمنين علي بعض أولاده أبابكر وعمر وعثمان لمحبته إياهم، وسمَّى الحسن والحسين رضي الله عنهما سيدا شباب أهل الجنة بعض أولادهما أبابكر وعمر، وقال عنهما الإمام زيد بن علي رحمه الله : هما وزيرا جدي. وانظر كتاب ( إرشاد الغبي لمذهب أهل البيت في صحب النبي) تأليف العلامة الشوكاني قاضي قضاة صنعاء المتوفى سنة 1250هـ .
فالقول بأن عليا هو الوصي عقيدة خبيثة  لا برهان عليها، وهي باب الرفض والتشيع والبدع والضلال، فمن اعتقد هذه العقيدة الباطلة العاطلة أبغض الصحابة وظن بهم ظن السوء، وربما وصل به الأمر إلى لعنهم وتكفيرهم لاعتقاده أنهم خالفوا وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأحسن كتاب في الرد على هذه العقيدة السخيفة ( مختصر منهاج السنة) لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ .
والعجيب أنهم يستدلون على هذه الوصية المزعومة بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ وزعموا أن المراد بها علي! مع أنها عامة في كل مؤمن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، ويدل على العموم أنها جاءت بصيغة الجمع ولم يقل الله :﴿والذي آمن الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وهو راكع﴾، وزعموا أنها أُنزِلت في علي وحده حين تصدق بخاتمه وهو راكع، والحديث المذكور مكذوب كما بيَّن ذلك أهل الحديث المتخصصين الذين حفظ الله بهم السنة، ولكن الشيعة قوم لا يهتمون بعلم الحديث، فما وافق أهواءهم قبلوه ولو كان لا أصل له، وما خالف أهواءهم ردوه ولو كان عند المحدثين صحيحا متواترا !
وقد بيَّن المفسرون أن قوله تعالى: ( وهم راكعون ) ثناء عليهم بالركوع وليس بيانا أنهم يزكّون حال الركوع ، فهذه الآية هي مثل قوله تعالى : ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ فليس المراد قطعا تلاوتهم آيات الله حال السجود، ثم الإمام علي ـ كما هو معلوم ـ لم يكن غنيا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام حتى تجب عليه الزكاة !! ثم الزكاة لا تجب في الخاتم الذي يلبسه الرجال!!!
نحن لا ننكر أن عليا رضي الله عنه  ممن تشملهم الآية، كيف وقد صح عند أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : " من كنت مولاه فعلي مولاه " أي من كان يحبني فليحبه ويناصره، ولكننا ننكر تحريف معنى الآية، وأن يُدَّعى أنها خاصة بعلي، وأن يُلَبَّس على الناس بأنها دليل على العقيدة الخبيثة الفاسدة الكاسدة (الوصية) التي تجعل صاحبها يبغض أصحاب رسول الله الذين مدحهم الله في كتابه في أكثر من آية كقوله : ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ .
﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.

قال الرجل الباحث عن الحق: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، والحمد لله الذي هداني للدين الحق الموافق للفطرة والعقول السليمة، وأشهد أن الشيعة يصُدّون عن دين الله بأقوالهم السخيفة، ومعتقداتهم الباطلة، التي ليس عليها دليل من القرآن أو السنة.
قال العالم السُّنّي : الحمد لله الذي يهدي من يشاء، وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه بفضله ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، والمؤمن المخلص يؤثر الحق على الخلق، ويُقدِّم الحق على الآباء والمشايخ، ويحرص على معرفة الحق في الاعتقاد والقول والعمل بالأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة، ولا يكتفي بما عنده من علم وخير، بل لايزال يزداد علما إلى علمه وخيرا إلى خيره، ويسأل الله أن يخرجه من الظلمات إلى النور ويزيده هدى وعلما ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
 ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾، ولا يقبل أي دعوى إلا بدليل صريح صحيح كما قال الله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، ولا يتَّبِع ما لا يَعلم كما قال الله : ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾، ويسأل الله في كل صلاة أن يهديه إلى الحق علما وعملا  ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ  غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾.
محمد بن علي بن جميل المطري